الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
وجميع مياه القلعة من ماء النيل تنقل من موضع إلى موضع حتى تمرّ في جميع ما يحتاج إليه بالقلعة وقد اعتنى الملوك بعمل السواقي التي تنقل الماء من بحر النيل إلى القلعة عناية عظيمة فأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أربع سواق على بحر النيل تنقل الماء إلى السور ثم من السور إلى القلعة. وعمل نقالة من المصنع الذي عمله الظاهر بيبرس بجوار زاوية تقيّ الدين رجب التي بالرميلة تحت القلعة إلى بئر الإصطبل. فلما كانت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة عزم الملك الناصر على حفر خليج من ناحية حلوان إلى الجبل المطلّ على القاهرة ليسوق الماء إلى الميادان الذي عمله بالقلعة ويكون حفر الخليج في الجبل فنزل لكشف ذلك ومعه المهندسون فجاء قياس الخليج طولًا اثنين وأربعين ألف قصبة فيمرّ الماء فيه من حلوان حتى يحاذي القلعة فإذا حاذاها بنى هناك خبايا تحمل الماء إلى القلعة ليصير الماء بها غزيرًا كثيرًا دائمًا صيفًا وشتاءً لا ينقطع ولا يتكلف لحلمه ونقله ثم يمرّ من محاذاة القلعة حتى ينتهي إلى الجبل الأحمر فيصبُّ من أعلاه إلى تلك الأرض حتى تزرع وعندما أراد الشروع في ذلك طلب الأمير سيف الدين قطاوبك بن قراسنقر الجاشنكير أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق بعدما فرغ من بناء القناة وساق العين إلى القدس فحضر ومعه الصناع الذين عملوا قناة عين بيت المقدس على خيل البريد إلى قلعة الجبل فأنزلوا ثم أقيمت لهم الجرايات والرواتب وتوجهوا إلى حلوان ووزنوا مجرى الماء وعادوا إلى السلطان وصوّبوا رأيه فيما قصد والتزموا بعمله فقال: كم تريدون قالوا: ثمانين ألف دينار. فقال: ليس هذا بكثير. فقال: كم تكون مدّة العمل فيه حتى يفرغ قالوا: عشر سنين. فاستكثر طول المدّة. ويُقال أنّ الفخر ناظر الجيش هو الذي حسن لهم أن يقولوا هذه المدّة فإنه لم يكن من رأيه عمل هذا الخليج وما زال يخيل للسلطان من كثرة المصروف عليه ومن خراب القرافة ما حمله على صرف رأيه عن العمل وأعاد قطلوبك والصناع إلى دمشق فمات قطلوبك عقيب ذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة في ربيع الأوّل. فلما كانت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة اهتم الملك الناصر بسوق الماء إلى القلعة وتكثيره بها لأجل سقي الأشجار وملء الفساقي ولأجل مراحات الغنم والأبقار فطلب المهندسين والبنائين ونزل معهم وسار في طول القناطر التي تحمل الماء من النيل إلى القلعة حتى انتهى إلى الساحل فأمر بحفر بئر أخرى ليركب عليها القناطر حتى تتصل بالقناطر العتيقة فيجتمع الماء من بئرين ويصير ماء واحدًا يجري إلى القلعة فيسقي الميدان وغيره فعمل ذلك ثم أحبّ الزيادة في الماء أيضًا فركب ومعه المهندسون إلى بكرة الجيش وأمر بحفر خليج صغير يخرج من البحر ويمرّ إلى حائط الرصد وينقر في الحجر تحت الرصد عشر آبار يصبّ فيها الخليج المذكور ويُركَّب على الآبار السواقي لتنقل الماء إلى القناطر العتيقة التي تحمل الماء إلى القلعة. زيادة لمائها وكان فيما بين أوّل هذا المكان الذي عُيِّن لحفر الخليج وبين آخره تحت الرشد أملاك كثيرة. وعدّة بساتين فندب الأمير أقبغا عبد الواحد لحفر هذا الخليج وشراء الأملاك من أربابها فحفر الخليج وأجراه في وسط بستان الصاحب بهاء الدين بن حنا وقطع أنشابه وهدم الدور وجمع عامة الحجارين لقطع الحجر ونقر الآبار وصار السلطان يتعاهد النزول للعمل كل قليل فعُمل عمق الخليج من فم البحر أربع قصبات وعمق كل بئر في الحجر أربعين ذراعًا فقدر الله تعالى موت الملك الناصر قبل تمام هذا العمل فبطل ذلك وانظم الخليج بعد ذلك وبقيت منه إلى اليوم قطعة بجوار رباط الآثار وما زالت الحائط قائمة من حجر في غاية الإتقان من إحكام الصناعة. وجودة البناء عند سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد قائمًا من الأرض في طول الجرف إلى أعلاه حتى هدمه الأمير يلبغا السالميّ في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وأخذ ما كان به من الحجر فرمّ به القناطر التي تحمل إلى اليوم حتى يصل إلى القلعة وكانت تُعرف بسواقي السلطان فلما هُدمت جهل أكثر الناس أمرها ونسوا ذكرها. المطبخ: كان أوّلًا موضعه في مكان الجامع فأدخله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فيما زاده في الجامع وبنى هذا المطبخ الموجود الان وعمل عقوده بالحجارة خوفًا من الحريق وكانت أحوال المطبخ متسعة جدًا سيما في سلطنة الأشرف خليل بن قلاون فإنه تبسط في المآكل وغيرها حتى لقد ذكر جماعة من الأعيان أنهم أقاموا مدّة سفرهم معه يرسلون كلّ يوم عشرين درهمًا فيُشترى لهم بها مما يأخذه الغلمان أربع خوافق صيني مملوءة طعامًا مفتخرًا بالقلوبات ونحوها في كلّ خافقية ما ينيف على خمسة عشر رطل لحم أو عشرة أطيار دجاج سمان وبلغ راتب الحوايج خاناه في أيام الملك العادل كتبغا كل يوم عشرين ألف رطل لحم وراتب البيوت والجرايات غير أرباب الرواتب في كل يوم سبعمائة أردب قمحًا واعتبر القاضي شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص أمر المطبخ اللسلطاني في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة فوجد عدّة الدجاج الذي يذبح في كل يوم للسماط والمخاطي التي تخص السلطان ويبعث بها إلى الأمراء سبعمائة طائر وبلغ مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم ثلاثة عشر ألف درهم فأكثر أولاد الناصر من مصروفها حتى توقفت أحوال الدولة في أيام الصالح إسماعيل وكتبت أوراق بكلف الدولة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة فبلغت في السنة ثلاثين ألف ألف درهم ومنها مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم اثنان وعشرون ألف درهم. وبلغ في أيام الناصر محمد بن قلاون راتب السكر في شهر رمضان خاصة من كل سنة ألف قنطار ثم تزايد حتى بلغ في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ثلاثة آلاف قنطار عنها ستمائة ألف درهم عنها ثلاثون ألف دينار مصرية وكان راتب الدور السلطانية في كل يوم من أيام شهر رمضان ستين قنطارًا من الحلوى برسم التفرقة للدور وغيرها وكانت الدولة قد توقفت أحوالها فوفر من المصروف في كلّ يوم أربعة آلاف رطل لحم وستمائة كماجة سمي وثلاثمائة أردب من الشعير ومبلغ ألفي درهم في كلّ شهر وأضيف إلى ديوان الوزارة سوق الخيل والدواب والجال وكانت بيد عدة عوضوا عنها إقطاعات بالنواحي. واعتبر في سنة ست وأربعين وسبعمائة متحصل الحاج عليّ الطباخ فوجد له على المعاملين في كل يوم خمسمائة درهم ولابنه أحمد في كل يوم ثلاثمائة درهم سوى الأطعمة المفتخرة وغيرها سوى ما كان يُتَحصلُ له في عمل المهمات مع كثرتها ولقد تحصل له من ثمن الروس والأكارع وسقط الدجاج والأوز في مهم عمله للأمير بكتمر الساقي ثلاثة وعشرون ألف درهم عنها نحو ألفين ومائتي دينار فأوقعت الحوطة عليه وصودر فوجد له خمسة وعشرون دارًا على البحر وفي عدّة أماكن. واعتبر مصروف الحوائج خاناه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة فكان في كل يوم اثنين وعشرين ألف رطل من اللحم. أبراج الحمام: كان بالقلعة أبراج برسم الحمام التي تحمل البطائق وبلغ عدّتها على ما ذكره ابن عبد الظاهر في كتاب تمائم الحمائم إلى آخر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وستمائة ألف طائر وتسعمائة طائر وكان بها عدّة من المقدّمين لكلّ مقدّم منهم جزء معلوم وكانت الطيور المذكورة لا تبرح في الأبراج بالقلعة ما عدا طائفة منها فإنها في برج بالبرقية خارج القاهرة يُعرف ببرج الفيوم رتبه الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وقيل له برج الفيوم فإن جميع الفيول من هذا البرج فاستمرّ هذا البرج يُعرف بذلك. وكان بكلّ مركز حمام في سائر نواحي المملكة مصرًا وشامًا ما بين أسوان إلى الفرات فلا تُحصى عدّة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات وكان لها بغال الحمل من الإصطبلات السلطانية وجاميكات البرّاجين والعلوفات تصرف من الأهراء السلطانية فتبلغ النفقة عليها من الأموال ما لا يُحصى كثرة وكانت ضريبة العلف لكل مائة طائر ربع ويبة فول في كلّ يوم وكانت العادة أ لا تُحمل البطاقة إلا في جناح الطائر لأمور منها حفظ البطاقة من المطر وقوة الجناح ثم إنهم عملوا البطاقة في الذنب وكانت العادة إذا بطق من قلعة الجبل إلى الإسكندرية فلا يُسرّح الطائر إلاّ من منية عقبة بالجيزة وهي أوّل المراكز وإذا سرّح إلى الشرقية لا يطلق إلا من مسجد تبر خارج القاهرة وإذا سرّح إلى دمياط لايُسرح إلاّ من ناحية بيسوس وكان يسير مع البراجين من يوصلهم إلى هذه الأماكن من الجاندارية وكذلك كانت العادة في كلّ مملكة يتوخى الإبعاد في التسريح عن مستقر الحمام والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى ابراجها من قريب وكان يُعمل في الطيور السلطانية علائم وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها ويسميها أرباب الملعوب الإصطلاح وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة وكانت لهم عناية شديدة بالطائر حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يُمهل حتى يفرغ من الأكل بل يحل البطاقة ويترك الأكل وهكذا إذا كان نائمًا لا يُمهل بل ينبه. قال ابن عبد الظاهر: وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم إمّا من واصل أو هارب وإما من متجدّد في الثغور. قال: وينبغي أن تُكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة وتؤرخ بالساعة واليوم لا بالسنين وأنا أورخها بالسنة ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها ولا يُذكر خشوفي الألفاظ ولا يكتب إلا لبّ الكلام وزبدته ولا بدّ وأن يُكتب سُرِّح الطائر ورفيقه حتى إن تأخر الواحد تَرَقَّب حضوره أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمل ويكتب آخرها حسبلة ولا تعنون إلا إذا كانت منقولة مثل أن تسرح إلى السلطان من مكان بعيد فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد وكل والٍ تصل إليه يَكتُبُ في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها حتى تصل مختومة. قال: ومما شاهدته وتوليت أمره أنه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرًا صحبة البراجين ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال: براجواها: قد أزف الوقت عليها في القرنصة وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير وسرحت يوم أربعاء جميعها فاتفق وقوع طائرين منها فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه وبُطُقِ بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد وهذا مما أنا مصرفه وحاضره المشير به. قال مؤلفه رحمه الله: قد بَطُلَ الحمام من سائر المملكة إلا ما ينقلُ من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل اعلن أ الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول: من ولي بفسطاط مصر من 5 فتح الله تعالى أرض مصر على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة وهؤلاء يقال لهم امراء مصر ومدتهم ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة عشر يومًا أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة وآخرها يوم الإثنين سادس عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وعدّة هؤلاء الأمراء مائة واثنا عشر أميرًا. القسم الثاني: من ولي بالقاهرة منذ بنيت إلى أن مات الإمام العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله رحمه الله وهؤلاء يقال لم الخلفاء الفاطميون ومدّتهم بمصر مائتا سنة وثمانين سنين وأربعة أشهر واثنان وعشرون يومًا أولها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وآخرها يوم الأحد عاشر المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة. وعدّة هؤلاء الخلفاء أحد عشر خليفة. والقسم الثالث: من ملك مصر بعد موت العاضد إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه ويقال لهم الملوك والسلاطين وهم ثلاث أقسام: القسم الأول ملوك بني أيوب وهم أكراد. والقسم الثاني البحرية وهم جراكسة وقد تقم في هذا الكتاب ذكر الأمراء والخلفاء وسنقف إن شاء الله تعالى على ذكر من ملك من الأكراد والأتراك والجراكسة وتعرف أخبارهم على شرطنا من الإختصار إذ قد وضعت لبسط ذلك كتابًا سميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك وجردت تراجمهم في كتاب التاريخ الكبير المقفى فتطلبهما تجد فيهما ما لا تحتاج بعده إلى سواهما في معناهما. من ملك من مصر من الأكراد اعلم أن الناس قد اختلفوا في الأكراد فذكر العجم أن الأكراد فضل طعم الملك بيوراسف وذلك أنه كان يأمر أن يذبح له كل يوم إنسانان ويتخذ طعامه من لحومهما وكان له وزير يسمى أرماييل وكان يذبح واحدًا ويستحيي واحدًا ويبعث به إلى جبال فارس فتوالدوا في الجبال وكثروا. ومن الناس من ألقحهم بإماء سليمان بن داود عليهما لاسلام حين سلب ملكه ووقع على نسائه المنافقات الشيطان الذي يُقال له الجسد وعصم الله تعالى منه المؤمنات فعلق منه المناقات فلما رد الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه وضع هؤلاء الإماء الحوامل من الشيطان قال أكردوهم إلى الجبال والأودية فربتهم أمّهاتهم وتناكحوا وتناسلوا فذلك بدء نسب الأكراد. والأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفندام بن منوشهر وقيل هم ينسبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر وقيل هم من ولد عمر ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء وقيل من بني حامد بن طارق من قية أولاد حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وإنما هم قبيل من قبائل العجم وهم قبائل عديدة: كورانية بنو كوران وهذبانية وبشتوية وشاصنجانية وسرنجية وبزولية ومهرانية وزردارية وكيكانية وجاك وكرودنيلية وروادية ودسنية وهكارية وحميدية ووركجية ومروانية وجلانية وسنيكية وجوني. وتزعم المروانية أنها من بين مروان بن الحكم ويزعم بعضا الهكارية أنها من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب. وأول من ملك مصر ن الأكراد الأيوبية. السلطان الملك الناصر صلاح الدين: أبو المظفر ويف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ من قبيل الروادية أحد بطون الهذبانية. نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه ببلددوين من أرض أذربيجان ن جهة أران وبلاد الكرج ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وقامه بها مستحفظًا لها ومعه أخوه شيركوه وهو أصغر منه سنًا فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم فشكر له خدمته واتفق بعد ذلك أن شيركوه قتل رجلًا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعًا عنده ثم رتب أيوب بقلعة بعلبلك مستحفظًا ثم أنم عليه بأمرة واتصل شيركوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين فتمكنا في دولته حتى بعث شيركوه مع الوزير شاور بن مجير السعدي إلى مصر فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده وكان من أمر شيركوه ما كان حتى مات. فاقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة ولقبه بالملك الناصر وأنزله بدار الوزارة من القاهرة فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجد وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني رحمه الله على إزالة الدولة الفاطمية وولى صد الدين بن درباس قضاء القضاة وعزل قضاة الشيعة وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية ومدرسة للفقهاء الشافعية وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ وكان العاضد مريضًا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة ن أول سنة سبع وستين وخمسمائة واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام فقدموا عليه بأهاليهم. وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرقها على أصنافها ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين وأنزل الغزو بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام فأتته الخلع الخليفية فلبسها ورتب نوب الطبلخاناه في كل يوم ثلاث مرات ثم سار إلى الإسكندرية وبعث ابن أخيه تقي الدين عمرو بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة وعاد إلى القاهرة.ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك هي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر وأخذ حمص وحماه وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي فقاتله أهلها قتالًا شديدًا فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار وثم عاد إلى حلب فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفرطاب ولهم ما بأيديهم وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار وأقام بدمشق وندب قراقوس التقوي لأخذ بلاد المغرب فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين بعدما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فشرع في بناء قلعة الجبل وعمر السور وحفر الخندق حوله وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه في القرافة وعمل مارستانًا بالقاهرة وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان وسمع الحديث عن الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ عمر الأسطول وعاد إلى القاهرة وأخرج قراقوش التقوي إلى بلا المغرب وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج وعوض أمير مكة عنه في كل سنة ألف دينار وألف أردب غلة سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن ومبلغه ثمانية آلاف أردب. ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج وقتل وأسر وسبى وغنم ومضى يريدهم بالرملة فقاتل أرياط متملك الكرك قتالًا شديدًا ثم عاد إلى القاهرة ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن وعاد فخرّب حصن ثم خرج إلى الإسكنجرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف وأنشأ بها مارستانًا وداراص للمغاربة ومدرسة وجدد حفر الخليج نقل فوهته ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا وأخذ الشقيف من الفرنج ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات وعدى إلى الرها فأخذها وملك حران وارقة ونصيبين وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضًا فنازل سنجار حتى أخذها ثم مضى على حران إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين وعاد إلى دمشق وحرق بيسان على الفرنج وخرب لهم عدة حصون وعاد إلى دمشق ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضًا وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك ثم رحل عنها إلى نابلس فحرقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان ونزل على الموصل وحصرها ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها فمضى حتى أخذ ميا فارقين وعاد إلى الموصل ثم رحل عنها وقد مرض إلى حران فتقرر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية وضرب السكة فيها باسمه ثم سار إلى دمشق فقمها في ثاني ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين ونازل الكرك والشبك وطبريةن فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج ثم واقعهم على حطين وهم في خمسين ألفًا فهزمهم بعد وقائع عديدة أسر منهم عدة ملوك ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر وأخذ مجدل يافا وعدة حسون منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف اسير مسلم كانوا في أسر الفرنج وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل ثم فتح بيت المقدس في يوم الجعمة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفًا من الفرنج بعدما أسر ستة عشر ألفًا ما بين ذكر وأنثى وقبض على مال المفاداة ثلاثمائة الف دينار مصرية وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية وقرر على من يرد كنيسة قيامة من الفرنج قطيعة يؤديها ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب ندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك. وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأول وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرًا وخمسة أيام ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشن الغرات على الفرنج وأخذ منهم انطرسوس وخرب سورها وحرقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعدما دخل حلب وفملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوال وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أول صفر سنة خمس وثمانين ثم سار منها في ثالث ربيع الأول ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبًا كثيرة ومضى إلى عكار وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة.
|